الشيخ علي القبلي نمران … شيخ العرف وشاعر الحماسة

الشيخ علي القبلي نمران حكاية تطول سرديتها،  وقصة لن تتكرر في التاريخ الاجتماعي والسياسي اليمني بما لعبه من أدوار اجتماعية وسياسية خلال حياته الحافلة بالكثير من الأحداث والتحولات والمحطات البارزة في تاريخ اليمن المعاصر .

في العاشر من أغسطس لهذا العام 2021، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي خبر رحيله في أحد مستشفيات القاهرة إثر معاناته مع المرض لفترة طويلة، قضاها هناك للعلاج ومراجعة الأطباء.، فمن هو علي القبلي وما هي قصة حياته؟!

ولد الشيخ علي القبلي في مديرية الجوبة بيعره حوالي عام 1938م، لأسرة تحظى بالحضور الاجتماعي المرموق على مستوى قبيلة مراد، فهو نجل الشيخ عبدالله بن سالم بن نمران.

وفي نهاية الخمسينات، وفيما كان الشيخ عبدالله سالم نمران المشهور بالقبلي مسافرا برفقة أخيه الشيخ محمد بن سالم وابنه علي، شاءت الأقدار أن يتعرضوا لحادث أدى لانقلاب السيارة ووفاة الشيخ القبلي، وعلى خلفية ذلك تم تعميم نجله الشيخ علي القبلي شيخا للقبيلة وهو مازال شابا يافعا.

غير أن هذا الشاب لم يخذل القبيلة وأثبت جدارته وتمكنه من تولي زمام أمور القبيلة بقدرة واقتدار وحكمة منحته احترام وتقدير الجميع. كيف لا وهو قد ترعرع في أحضان هذه الأسرة ذات الثقل الاجتماعي وذات المكانة المعروفة في مراد وغيرها، وقد نهل منها الفتى قيمه وأخلاقياته واكتسب سماته الشخصية التي انعكست لاحقا في رجل القبيلة الذي يعول عليه في قيادتها، إذ أثبت ذلك لاحقا وهو لازال في سن مبكرة، بحكمة ودهاء إزاء مختلف المحطات والإرهاصات التي امتلأت بها حياته،  وقد تميز كذلك (كبقية أفراد أسرته)بالأخلاق الحميدة والتواضع والكرم والشهامة والمروءة،  فكان لتلك المزايا أن قربت الجميع إليه، ومنحته جواز عبور إلى قلوبهم.

البعد الشخصي:

السمات الشخصية للشيخ القبلي تكاد تكون طابعا عاما لجميع أفراد أسرته الكبيرة، إذ يأسرون الآخر بأخلاقهم وينالون باستحقاق الاحترام الخالي من التكلف أو الممالأة كرد فعل طبيعي لمزايا هي أقرب إلى الصورة الطوباوية في زمن مادي.

الكاريزما التي امتلكها الشيخ القبلي تشتمل على روزنامة من الصفات والمقومات الشخصية التي يسعى الكثير لامتلاكها، وتلك الكاريزما هي نتاج مقومات شخصية امتزج فيها الطبيعي بالمكتسب فشكل صورة كاملة الملامح لرجل اتصف بالذكاء والدهاء والحنكة والخبرة، وإلى جانب ذلك يتصف بالكرم والشهامة والتواضع. ما جعله يروض جموح نفسه في ريعان شبابه لمتطلبات حياة ليست ملكه بمفرده لقناعته أنه يمثل صورة مختزلة للقبيلة وينطق بلسانها، أو بالأحرى تنطق هي بلسانه، فكان ترجمانا أمينا عبر بصدق وتفان عن قبيلته وعن كيانه، ولم يفرط أو يساوم بتلك الأمانة التي تقلدها تحت أي اعتبار.

البعد الاجتماعي:

المجتمع الريفي رغم بساطته وتلقائيته إلا أن لديه منظومة معقدة من القيم والمعايير التي على ضوئها يطلق المجتمع أحكامه ويسن قوانينه ويسير حياته وينظمها، وهذا هو سر الحفاظ على تنظيم الحياة واستمرارها بوتيرة هادئة بعيدة عن الانحراف في ظل غياب وجود مؤسسات للدولة تنظم شؤون الحياة، أو هشاشتها حال وجودها.

ومن هنا ينبثق دور الكيان الاجتماعي المتمثل في القبيلة التي حافظت في مختلف العصور على وحدتها وترابطها وقوتها من خلال إطار نظري متوارث (عادات وتقاليد) كان عصارة وخبرة عصور طويلة تناقلتها الأجيال وحافظت عليها كعنوان هوية لم تفرط به.

وتمثل تجربة الشيخ علي القبلي نموذجا يعكس ذلك الإطار بكافة أبعاده، وعلى رأس هرمه يتربع هو باعتباره شيخ القبيلة وقائدها وممثلها والمترجم لأسفارها العتيقة في سجالات حياة القبيلة ومواقفها، تاركا بعد رحيله سجلا مليئا وأرشيفا يوثق التجارب التي عاشها وسطر من خلالها أدبيات العرف القبلي في صيغة تستمد مادتها من عمق الثقافة والهوية اليمنية، ما أكسبه حضورا اجتماعيا تعدى نطاق القبيلة.

البعد السياسي:

في الفترة التي تولى فيها الشيخ القبلي مقاليد المشيخ كرجل قبيلة، كانت اليمن تعيش مخاضات سياسية تهيئها للانتقال من مرحلة إلى أخرى بسقوط الملكية وقيام الجمهورية.

وفي خضم تلك الأحداث لم يكن الرجل بعيدا عن المشهد ولم يشغله الاهتمام بأمور القبيلة أن يكون رجل دولة له تأثيره وحضوره الفاعل في تشكيل المشهد اليمني القادم، من خلال نشاطاته السياسية المبنية حسب تقييمه الحكيم للواقع وقراءته للمشهد، وتأييده لنظام الحكم المولود من رحم النضال الوطني ليسجل سيرته الذاتية المرتبطة بالعمل السياسي عبر محطات تاريخية عاصرت الكثير من الأحداث والتحولات في تاريخ اليمن.

كان أول عمل رسمي يتقلده “علي القبلي” أن عين قائدا للمنطقة العسكرية بالجوبة بعد انسحاب القوات المصرية.

وفي نهاية الستينات تم تعيينه عضوا لمجلس الشورى، وبعدها عضوا لمجلس الشعب التأسيسي في منتصف السبعينات.

وبقي الشيخ علي القبلي ـ رحمه الله ـ عضوا لمجلس الشورى الحالي حتى وفاته.

كما كان حاضرا ومساهما في كثير من المؤتمرات الوطنية في مراحل مختلفة بدءا من مؤتمر عمران، ومساهمته الكبيرة في عقد مؤتمر خمر.

كما كان الداعي الرئيسي لمؤتمر سبأ القبائل اليمنية والذي عين أمينه العام المساعد وصولا إلى تحالف مأرب والجوف، والذي بقي رئيسا له حتى وفاته.

وأظهر الشيخ القبلي هو وقبيلته في المرحلة الأخيرة من تاريخ اليمن موقفا مشرفا بوقوفهم إلى جانب الشرعية ضد مليشيات الحوثي، وكانوا من السباقين إلى النفير للدفاع عن الوطن، وقدموا قوافلا من الشهداء في سبيل الحرية ومناهضة السلالية والدعاة لعودة الملكية سواء على مستوى أسرته وأبنائه و على مستوى القبيلة بشكل عام.

البعد الثقافي:

إلى جانب الدور الاجتماعي الذي تقلده الشيخ القبلي كشيخ قبيلة، فقد كان شاعرا متمكنا رافقه الشعر طوال فترة حياته، واتخذ منه بوتقة يسكب فيها عصارة فكره وأشجانه التي امتزجت فيها أطياف أغراضه الشعرية، التي حملتها قصائده المعبرة عن مواقف ومراحل زمنية مختلفة في حياته، لتشكل في مجملها صورة واضحة المعالم لصاحبها بفكره وثقافته وقناعاته وفلسفته للحياة.

في قراءتك لشعر الشيخ علي القبلي لا أكاد أبالغ إن قلت أنك تفتح ديوانا شعريا بل قاموسا مترامي الأطراف يعكس إلماما ومعرفة وإدراكا للكلمة ودلالاتها وموقعها وأثرها في نفس السامع، فيعطيها حقها من الاهتمام والعناية كونها خطابا يحمل رسالة، والأكثر من ذلك يحمل صورة لصاحبه الذي لا يمثل نفسه فقط ولكنه يعبر عن القبيلة بأكملها.

تتنقل بين جنبات هذه التجربة الشعرية لتقابل هنا عاشقا عذريا مرهف الإحساس تحركه النسمة العابرة مثيرة أشجانه ولوعاته فتجد العبارة الرقراقة المنسابة في ليونة تتناسب والخطاب الشعري للعاشق الذي يصف محبوبته أو يتذكر أطلالا جمعتهم في سالف العهد فأذكت صبابته وحركت شاعريته ليوثقها شعرا وجدانيا يحرك المشاعر ويطرب الأسماع.

وتقابل هناك في الضفة الأخرى فارسا مغوارا لا يهاب الصناديد أقرانه ولا يخشى المدلهمات ويقف في شموخ وكبرياء يعكس بهما ثبات القبيلة ومقارعتها للحوادث ومواجهتها للمحن والأزمات بصلابة وقوة تأبى أن تنحني أو تظهر الضعف والخضوع كما نطالعه هنا في قوله:

قسم ما احمل الباطل لصاحب ولا جنيب
	ولا نحمل الفسلة ولا نحتجي بها

على مجد تاريخ الصحب لو في اللهيب
	ولا ارضى في اصحابي واغنِّم جنيبها

وفي ذروة الحماسة ينوه إلى مصدر قوته ومنعته وخلفيته التي يستند إليها، والمتمثلة في قبيلته وفرسانها الشجعان الذين يصور قدومهم أثناء الزحف كالسيل الجارف الذي يكتسح ما يواجهه، فيقول:

ولاشي قلق لي سيل يسفح على العقيب
	يكسر مواجحها ويجرب كثيبها

بالأعداد والعدة جعل خصمهم يجيب
	يشلو ثقل الأحمال كم من منيبها

ولا يخلو ديوانه كذلك من الحكمة التي تعكس عقلية رجل عركته الحياة وعجنته وصقلته المواقف فحلب خبراتها، وسكبها في عصارة يهديها لقارئه في عبارة موجزة مختصرة في سياق غير متكلف ولا متصنع تتناسب وطبيعة الموقف والخطاب الذي استدعاها..

وعند التنقل بين قصائده تأسرك صوره الشعرية ذات البناء القوي المعبر بصرامة عن القواعد الاجتماعية والعرفية التي تعد ناموسا يحظى بالاحترام حد القداسة، فنراه يشيد بتلك القيم الاجتماعية بخطاب مشبوب بالحماسة التي لا يشوبها أي تراخ أو تفريط، ويصدرها قواعد مكتوبة مستقاة من نصوص ميثاق اجتماعي شفهي، كقوله:

أبو مرسل طريق العز عوجا
	وناموس القبايل في عوجها

ومصورا الدور القيادي وأهميته لوحدة الصف، كقوله:

أبومرسل كبار القوم توقف
	وصبيان الطلق توقف معاها

وفي موقف آخر وقصيدة أخرى يندد بالتفريط بعرى التماسك والترابط والتخلي عن تلك السنن والأعراف المتوارثة، فيقول:

يستاهل اللوم من خالف سنن واعـراف
	ذي معرَضَه له علـى جمـع التواسيلـي

كنها بنا حصـن مـا يهتـز للنَطَّـاف
	زيـن الوجاهة خروجـه والمداخيلـي

ما كان ينزاح من ساسه الـى التَّعفـاف
	مكيـن مبنـاه مـا فـيـه التماييـلـي

	
ويا لوم صاحب من ذمر صاحبه يغيب
	تلومه زروق الشمس حتى مغيبها

	
ومن يزرع الحبة فهو أحق في الصريب
	بهذه ثماره لا ابتلى في صريبها

وتراه حينا آخر يخاطب الصاحب معاتبا بلغة استعطاف بعيدا عند الشدة والخشون أو المجافاة التي قد تفسد الخطاب وتؤدي لتوسيع الهوة بينهما بشكل أكبر، بل إنه يحتفظ بالوشائج دون أن يمس بها أو يخدشها فيقول:

ويا لوم صاحب من ذمر صاحبه يغيب
	تلومه زروق الشمس حتى مغيبها

ويستدرك في ذات السياق منوها لأثر العمل الصحيح وما يخلفه في النفس من شعور جميل فيقول:

ومن يزرع الحبة فهو أحق في الصريب
	                         بهذه ثماره لا ابتلى في صريبها

ويردف بعد ذلك الأثر العكسي الضد لما ذكره سابقا يسوقها بمثابة الصورة الأخرى فيقول:

ومن كايد الصاحب عقابه على الرقيب
	                      عليك اتكالي والأمل يا رقيبها

إجمالا .. حين يريد المتتبع لمادة هذا الديوان الشعري أن يبني رأيه أو يصدر حكما نقديا عليه، فإن أهم ملاحظة تبرز هي أن قصيدة القبلي تتمتع ببنية قوية مترابطة أجاد صاحبها صياغتها سالكا طريق أسلافه القدماء في تشييد هذا البناء الشعري السامق المعبر عن هوية وثقافة المنطقة بجلاء ووضوح.

شارك الموضوع
مسعد عكيزان - مأرب 360

مسعد عكيزان - مأرب 360

مسعد عكيزان، شاعر وباحث وناقد من محافظة مأرب، له عدد من المشاركات في المحافل الأدبية
وله دراسة في الأمثال الشعبية بمحافظة مأرب.
حاصل على جائزة رئيس الجمهورية للقصة القصيرة على مستوى المحافظة للعام2006م.
له برنامج إذاعي بعنوان (خزانة التراث) أذيع على أثير إذاعة مأرب المحلية لثلاثة مواسم.
له عدد من الدراسات النقدية والبحوث في العادات والتقاليد والموروث الفكري والفلكلور الشعبي لمحافظة مأرب.

تابعونا على شبكات التواصل